والمَشْهد الرابع : مَشْهد الحِكْمة ، فقد تكون بموقف فيه الرَّحْمة والعدْل ، ولكن دون حكمة، سألني أخٌ منذ يومين : كيف أحكم علاقتي مع أهْل الدنيا؟ فقلْتُ : احْكم علاقتك معهم بِمَبْدأين : مبْدأ شَدِّ الحَبْل ، ومبْدأ شَدّ البرْغي ، فإذا كان ممكناً أن يشُدُّوك فَدَعْهُم ، وإذا كان ممكناً أن تشُدَّهم فَكُن معهم .
إذاً مَشْهد الحِكْمة أنَّ حِكْمته تعالى اقْتَضَتْ ذلك ، ولم يقَدَّر الأمْر سُدى ولا عبثاً .
المشهد الخامس هو مشهد الحمد فالله يُحْمد على أنَّ الأمْر بِيَدِه ؛ له الملك وله الحمد وهو على كُلِّ شيء قدير ، وعلى أنَّ فِعْله عدْل ، وفعْله رحْمة وحِكْمة ويُحمد على ذلك .
المشهد السادس العبودية أنت عبْدٌ والله ربّ ، ماذا تسْتطيع أن تفْعل ؟ أحد الدعاة مَرَّةً قال: إذا أراد الله تعالى أن يضعَ فُلاناً الفُلاني بِجَهَنَّم فماذا نسْتطيع أن نعْمل ؟! فأنت لا تمْلك شيئا، إذاً إذا نَزَلَتْ بك نازلة وشَعَرْتَ بِعُبودِيَّتِك ، وأدركك الحمْد والحِكْمة والرَّحْمة والعدْل والتَّوْحيد ، فأنت مؤمنٌ ورَبِّ الكعْبة ، وهي علامة الإيمان أن ترْضى بِمَكْروه القَضاء ، الدنيا دار ابْتِلاء لا دارُ اسْتِواء ، تصِحّ من جهة وتنْقص من جِهَة أخْرى ، امْتِحان ، فأنت مُمْتَحنٌ فيما أعْطاك وفيما منَعَك وهي قاعِدَة ثابتة مُمْتَحَن مَرَتين : مرة فيما أعْطَاك ، ومرة فيما حَرَمَك ، مرَّة يُعْطِيكَ صِحَة و لكن يعوزك المال، وبالعَكْس مال و لكن تتمنى صِحَة و قد يُعْطِيكَ مالاً وصِحَة ولكن زَوْجَة مُتْعِبَة ، و في حالة أخْرى يُعْطِيك مالاً و صِحَة وزَوْجَة صَالِحَة و لكن بلا أوْلاَد ، وقد يُعْطِيك أوْلاَداً بلاَ مال ، فلا بدّ من مشْكلة ، هذه يُمْتحَنُ بها المؤمن ، وكُلّ واحد يظنّ أنّ مشْكلته هي أكْبر مُشْكِلة ، فالبُطولة أن تنْجح بالابْتِلاء ، لذلك مشْهد العبودِيَّة أنَّك عبْدٌ مَحْضٌ من كُلِّ وَجْهٍ تجْري عليه أحْكام سيِّده بِحُكم كَوْنه مالكاً لك وأنت عبْده فأنت خاضِع له ، فالله له المُلْك وله الحمْد، قال رسول الله فيما يرويه عن ربِّه : عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا...*
[رواه مسلم ]
لكن هذه مشيئة الله وأنت عبْد ولسْتَ نِداً لله ، مَشْهد التوحيد مع مشْهد العدْل مع مَشْهد الرحْمة مع مَشْهد الحكمة مع مَشْهد الحمد مع مَشْهد العبودِيَّة أقول لك مرَّةً ثانِيَة فأنت مؤمنٌ وربِّ الكعْبة ، وامْتَحِن نفْسَك بالمُشْكِلات إذْ لا أحد يمْتحِن المَرْكبة بالنزول أما الامْتِحان فبالصعود، لا تتَوَهَّم نفْسك مؤمناً إلا بالمكاره ، وترى أنَّ هذا فعْل الله وقضاؤُه ، وأنَّ هذا فيه الحكمة والعدْل والرحمة ، وأنت عبْدٌ له فهذه حالات أهل الإيمان ، حالات مسعدة .
وبعد فما هي نتائِج المعْصِيَة ؟ دقِّقوا فهذه كلمات دقيقة : قِلَّةُ التَّوْفيق ، كُلُّ الطرُق مَسْدودة، وفساد الرأي ، فالله يحجبُ عنك الصَّواب ، قال تعالى :
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
[ سورة محمد ]
وخفاء الحقّ ، لأنَّهُ مقْطوع عن الله ، وهذا يسْتلزم العَمى ، وفساد القلب وخمول الذِّكْر لا يرْفع لك ذِكْرك ، وإضاعة الوقْت لأسباب ، وما من إنسان يُؤدي زكاة الوقْت أيْ أنّه يُصَلي ، يحْضر مجالس العِلْم ، ويقتطِع من وقته لِطاعة الله ، فَكُلُّ إنسان يُؤدي زكاة الوقْت يحْفظ الله له بَقِيَّةَ الوقْت ، وكُلُّ من يضن أن يؤدي عبادة أو يطْلب العلم فالله يُضَيِّع له الوقْت من حيث لا يشْعر ولأسباب تافِهَة ، فالله قادر على أن يُضَيِّع لك مليون ساعة دون جَدْوى ، مرض يُلِمُّ بك فإذا بك تدْفع اثني عشر ألف ليرة ! تضْييع وقْت وضيق ودُيون فإياك والضن بوقتك لطاعة الله وطلب العلم، فحينها يُتْلف الله لك الوقْت أي أن العمر يتبدد ، فكما أنك إذا أدَّيْت زكاة مالك حفظ الله لك بقية مالك كذلك إذا أدَّيْت زكاة وقْتك حفظ الله لك بقية وقْتك ، قال لي أحدهم : أنَّهُ كان على الْتِزام كامل بالدُروس ، وبإلحاح من أهل بيته ذهب إلى النُّزْهة في يوْمٍ جمعة وترك الدرس ، ولما كان في النُّزْهة أراد أن يمْلأ دَلْواً فإذا بولدٍ يقول له دعني أنا الذي أمْلؤه لك ! بِكُلِّ أدَب ، فإذا به وهو عائد بالطريق يجد أنَّهُ قَد سُرق منه دفْتر الصكوك المصرفية النقود والهَوِيَّة وجميع الأوْراق الخاصَّة !!! سِتَّةُ أشْهر من فَرْعٍ لآخر حتى جَدَّدهُ ، لأنَّه غَيَّر الوِجْهة إلى لا فائِدَة فيها ، فإذا كان للإنسان مَجْلس عِلْم فلا يضيعه .
قِلَّةُ التوفيق وفساد الرأي وخفاء الحق وخمول الذِّكْر ، وإضاعة الوقْت ، ونفْرة الخلق ، يقولون عنه دمُهُ ثقيل ، الناس يتضايَقون منه ، فالله عز وجل يُنَفِّرُ الخَلْق منك ، وذلك للوَحْشَة بين العبْد ورَبِّه ، والطريق غير سالك ، وكذلك مَنْعُ إجابة الدعاء ، وقَسْوة القلب ، فلا يَرْحم ، مَحْقُ البَرَكَة في الرِّزْق دَخْل كبير ولا بركة ، بينما تجد مؤمناً دَخْلُهُ مَحدود والبركة عامَّة في بيْته ، كيف ؟ الله أعلم ، هذا مما لا نعْلَمُه ! ما معنى البركَة ؟ أن يخْلق الله من شيء قليل شيئاً كثيراً ، وهذه أراها بِعَيْني فهناك أشْخاص فِعْلاً دَخْلُهم مَحْدود لكن كُلَّ شيء موجود بالبيت فالحلال يأتي بالبركة، وآخر لا شيء عنده مع أنَّ الدَّخْل كبير ولكن لا بركة ، والحِرْمان من العِلْم، ويلبسه الله لِباس الذلّ وإهانة العَدُوّ ، وضيق الصَّدْر ، والابْتِلاء بِقُرناء السُّوء ، وطول الهَمّ والغمّ وضَنْكُ المعيشة ، قال تعالى :
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى
[ سورة طه ]
قالوا : فالمعْصِيَةُ تُوَلِّد الغفْلة عن ذِكْر الله ، والإحْراق في النار ، لكنّ أضْداد هذه الصِّفات تتَوَلَّدُ عن الطاعات ؛ توفيق ورأيْ سديد ، جلاء الحق، القلب عامر بِذِكْر الله ، بركة الوقت ، حَبَّبَك لِلْخَلق فأنت محبوب ، ومُسْتجاب الدَّعْوة وصار قلْبُك رحيما ، ومنحكَ كرامة العِلْم، أعَزَّك وجعل عَدُوَّك في خِدْمَتِك شَرَحَ الله لك صَدْرك ، وأكْرمك بإخوة مؤمنين صادِقين ، ونزع عنك الحُزْن وكانت عيشتُك راضِيَة ، وكُلُّ هذا بِفَضْل الطاعات .
فهذه الفقرات جاءت تحت عنوان فوائِد ، وهي تَجارب مُكَثَّفَة في كلمات .
والحمد لله ربِّ العالمين